بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه واهتدى بهداه
وبعد..
فهذه رسالة مختصرة في مسألة مهمة وخطيرة جدا ألا وهي مسألة ((السؤال عن الله بأين))،وقد جعلتها مختصرة لأن الموضوع قد طرحه الكثير والكثير من أهل العلم وطلبته بصورة موسعة وبسط كثير،وأما بحثنا هذا فهو محاولة لتقريب الحق من أذهان الذين لا يتمكنون من استيعاب المطولات المتعلقة بهذا الموضوع،ولهذا جعلنا عنوان رسالتنا هذه(( هل يقال أين الله ))،ليعلم الواقف على العنوان من عوام الناس وصغار الطلبة – أمثالنا-أن هذه الرسالة تعنيهم،لاسيما وأن التوحيد والتفريد والتمجيد لله واجب على المؤمنين أجمعين وليس هو من فروض الكفاية التي يغني فيها علم الخاصة بها عن العامة،فلا تقليد في التوحيد على الصحيح.
تنزيه الله تعالى واجب:
وتكمن خطورة هذه القضية في كونها من المسائل المتعلقة بذات الله تعالى،وبما أن تنزيه الله تعالى من الأمور التي تجب وجوبا عينيا على كل مسلم،فإن من لم ينزه الله تعالى أثم وأسقط هيبة الله من قلبه وندم،ومن أسقط هيبة الله من قلبه فقد هوى في مهاوي الخسران والخذلان والحرمان والعياذ بالله.
ولم تسقط هيبة الله تعالى من قلب عبد إلا كفر بل ودعا إلى الكفر،واجترأ على آيات الله وحدوده بالرد والرفض والتعطيل والتعليل.
وإن المتأمل في علة اجتراء الأولين والآخرين على ذات الله تعالى وصفاته وأحكامه وآياته يجد أن من أدعا دواعي ذلك هو سقوط هيبة الله تعالى من قلوبهم،وقد أخبر الحق سبحانه عن إيغال هؤلاء في الضلال فقال عن عاد { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت] وقال عن المشركين{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر]قال ابن كثير في تفسيره:" يقول تعالى: وما قدر المشركون الله حق قدره، حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته.
قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السدي: ما عظموه حق عظمته.
وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى عليهم، فمن آمن أن الله على كل شي قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره "إ.هـ
وعندما سقطت مهابة الله تعالى من قلوب اليهود اجترؤوا على الله تعالى غاية الجرأة{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [الإسراء/64] { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة/18].وما كان فرعون ليقول أنا ربكم الأعلى لولا أن هيبة الله تعالى قد فارقت قلبه ولبه،وما قال الذي حاج إبراهيم في ربه أنا أحيي وأميت إلا لأن الله لم يعظم في قرارة نفسه،وعلى هذا المسار كل من جاء في هذه الأزمنة ليجترئ على آيات الله تعالى ليؤولها بصنوف التأويلات العاطلة الباطلة قاصدا بذلك تعطيل أحكام الله تعالى وتشريعاته،وعلى هذه الشاكلة من يتسمون بالعقلانيين،وهم طائفة من الزنادقة الذين غرهم الهوى فحقروا العلماء واعتدوا على نصوص جبار الأرض والسماء بزعم التجديد في فهم النصوص فكانوا بحق أسوأ اللصوص،وقد استجاب لهم جماعة من الجهلة والرعاع الذين لم يكن لهم من العقل والعلم حظ ولا نصيب،ووجدوا في أفكارهم الساقطة مرعى خصيب وما علموا أنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.فنسأل الله العصمة والسلامة.
والذي نريد أن نقرره بالعقل والنقل هنا هو أن الله تعالى منزه عن المكان،وأن السؤال عنه سبحانه بأين سؤال ساقط،وذلك لأن أين طلب للجهة والجهة على الله تعالى مستحيلة.
كان الله ولا شيء قبله ولا معه:
فالذي نعتقده ونؤمن به إيمانا جازما لا يقبل الشك ولا التردد أن الله تعالى كان ولم يكن شيء قبله ولم يكن شيء معه،وذلك لقوله تعالى إخبارا عن نفسه{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد] ولأن العقل يجزم بأنه لو كان مسبوقا أو مصاحبا في الوجود لجاز أن يكون السابق أو المصاحب إلها معه إذ لا فضل لأحدهما على الآخر وهو باطل تعالى الله عنه.
وفي الحديث " اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ "رواه مسلم،ومعنى ذلك أنه تعالى كان ولا سماء ولا أرض ولا عرش و لا كواكب ولا زمان ولا مكان،وهو الغالب على أمره القهار الذي لا يقهر والغني عن كل شيء.
صفات الله تعالى كاملة:
ومن ثوابت العقيدة ومسلماتها التي يجب أن تنمو شجرتها في قلب وعقل الفتى المسلم كلما نمى هي أن الله تعالى كامل الصفات ،أي أن صفات الله تعالى لا يزيد فيها شيء ولا ينقص منها شيء،ومن قال بخلاف ذلك لم يعظم ربه،إلا أن الخلاف قد وقع بين أهل العلم في الصفات الفعلية لله أهي قديمة أم لا ؟أي هل يقال لم يزل الله خالقا رازقا محي مميت قبل أن يخلق الخلق ويبسط الرزق؟ هذا ما يجده الطالب في مواضعه من كتب التوحيد،وأما صفات الذات الإلهية فلا خلاف في أنها لا تتغير ولا تزيد أو تنقص وذلك كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك.. نعم اختلف في قول ما أسمع الله وما أبصر الله ولكن لا خلاف في أنها صفات لا ولم ولن تتغير،وهكذا بقيت صفات ذاته سبحانه.
الجهات والأماكن كلها محدثة:
فإذا علمنا ذلك واستقر في نفوسنا – وهو الحال ولا ريب- تبين أن الله تعالى لم يكن متصفا قبل خلق الخلق بفوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه ولا يمينه ولا شماله وأن حدوث السماوات والأرض والوجود كله لم يزد ذات الله تعالى صفة اسمها العلو أو السفل أو الفوق أو التحت أو الارتفاع أو النزول،وذلك لأن هذه الجهات من محدثاته سبحانه فيستحيل أن تكون ظرفا له وهو خالقها.أي أن كل جهة من الجهات حادثة مخلوقة،والله كان غنيا قبلها إذ لم يكن بها،أفيحتاج إليها بعد إحداثه لها فيكون مظروفا لها؟!! حاشا وكلا،وعليه فإن القول بوجوده سبحانه في شيء منها يلزم منه أن لا يكون كذلك قبل وجودها وإنما اتصف بذلك بعد أن أوجدها،ثم يلزم من ذلك كذلك أن يتخلى عن هذه الصفة بعد أن يفنى العرش وكل الموجودات، وبهذا نعلم استحالة اتصافه جل وعز بهذه الصفات للزوم التغير والتقلب والتبدل عليه سبحانه بإثباتها له،وما لزم منه المحال فهو محال مثله.
الجهات نسبية:
ثم إن من البدهي المعلوم أن الجهات جميعا نسبية،وليست حقيقية وذلك لثبوت بيضاوية الأرض،فالجهة العليا بالنسبة لنا هي سفلى بالنسبة لغيرنا والعكس كذلك،فإذا قلنا هو فوقنا فقد وصفناه بالسفل وكذلك من يقابلنا من الجهة الأخرى للكرة الأرضية.
ونحن إن عذرنا المتقدمين في اعتقاد أن الأرض مسطحة وأنها ليست بيضاوية الشكل وأنه لا جهة لها إلا التي هم عليها،بل ولا سكان عليها غيرهم فإنه لا عذر لأهل هذا العصر في اعتقاد ذلك،وإن اعتقدوه فقد كابروا الحس ،فقد علم الإنس والجن أن الأرض ما هي إلا ذرة تتهادى في هذا الكون الفسيح،وأنها بيضاوية الشكل ،وأنها تدور بلا توقف،وسكانها يدورون بدورانها،وأن القول بأن من جهاتها الفوق والتحت هو الغباء البحت،ثم إن الله تعالى قد أشار إلى ذلك في كتابه بعض الإشارات ولفت الأنظار إليه في قدسي خطابه والكلمات،فثبت بذلك تعذر وصفه تعالى بجهة من الجهات.
الجهات متحيزة محدودة:
وكل جهة من الجهات تشغل حيزا ويخلو منها حيز آخر،والمتحيز محدود،فإن جاز أن نقول بأن الله تعالى في جهة هذه الجهات أجزنا ولا ريب تحيزه سبحانه فيها،ووصفه تعالى بالتحيز باطل عقلا ونقلا،فالله لم يصف نفسه بالحدود والغايات والتحيز ولم يصفه بذلك أحد من رسله ولا نزل وصفه بذلك في شيء من كتبه.
ثم إن الحدود والغايات والتحيز من صفات الجسم ذي الجرم والحجم،وهو وصف لم يصف الله تعالى به نفسه ولم يصفه به أحد من رسله ولا نزلت به كتبه ،وحقيقة الأمر أن الذين أجازوا المكان على الله لم تستوعب عقولهم نفي المكان عنه سبحانه وذلك لأنهم قاسوه على المخلوقات التي عرفوها والأجسام التي ألفوها فقالوا كل موجود لابد له من مكان ولا بد من أن يكون متصلا أو منفصلا عن العالم وإما أن يكون فوقه أو تحته أو داخله أو خارجه وهكذا صورت لهم أخيلتهم الرب جل جلاله وكأنه جسم لا بد له من حيز يشغله وحدود وغايات وأنه منفصل عن الموجودات غير ممتزج بها،والمتأمل يعلم تمام العلم أن هذا دال كل الدلالة على أن القوم جسموا الله في أخيلتهم وإن نفوا عن أنفسهم وصف التجسيم،فالجسم هو ما يوصف بالذي وصفوا به الله تعالى،وأنت إن سألت بليغ البغاء ومصقع الخطباء أن يصف لك الجسم فإنه لن يصفه لك بغير هذا الذي أجازه هؤلاء على ربهم جل وعلا،وأما عقيدتنا فهي أنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،وأنه لا يوصف بالعلو ولا بالسفل ولا بأنه داخل العالم ولا خارجه ولا بأنه متصل به ولا منفصل عنه،فإن قال قائل وكيف يمكن استيعاب أن يكون موجود بلا مكان ولا اتصال ولا انفصال ،فجوابه أن ذلك يتعذر إن كان كلامنا عن مخلوق وأما إن كان الكلام عن الخالق الذي وصف نفسه بقوله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فذلك جائز بل هو الواجب، ولا يشترط لتصديقه استيعاب العقل له،إذ أننا نسلم أنه سبحانه كان ولا ابتداء لوجوده،ولا يتصور العقل موجودا بلا ابتداء،فكما سلمنا بأنه سبحانه أول بلا ابتداء فلنسلم بأنه سبحانه موجود بلا مكان.
حامل ومحمول:
ومن لوازم القول بأن الله تعالى مستقر على العرش استقرارا- كما قالت المجسمة- أن يكون الله محمولا والعرش حاملا وهذا اعتقاد عظيم تقف منه شعور المنزهين لله وتقشعر منه جلودهم،وذلك لأن وصف الله تعالى بأنه محمول من أقبح ما ينسب لله تعالى،وهو وصف لا وجود له في كتاب الله ولا في سنة متواترة إلا في كتب وروايات وأدمغة المجسمة الذين انطلت عليهم الأكاذيب السامرية والدسائس الإسرائيلية،كيف والله تعالى يقول{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} [الشورى]قال القطب رحمه الله في الهميان:" يتشققن من عظمة الله عز وجل قيل يدل عليه مجيئه بعد { الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }"إ.هـ
إذا ثبت لدينا أن من المستحيل مطلقا أن يوصف الحق سبحانه بالمكان ثبت بالتالي عدم جواز أن يسأل عنه تعالى بلفظ" أين الله "، وكما لايجوز أن يقال أين الله كذلك لا يجوز لأحد أن يجيب من وجه إليه هذا السؤال بقوله لا أعلم أو لأعلم أين الله،وذلك لأن نفي العلم بالمكان لا ينفي المكان عن الله بل يثبت له تعالى مكانا غير معلوم لديه وهذا باطل.
الحجج والبراهين على ذلك:
وكما تظافرت أدلة العقل على نفي المكان عن الله توافرت أدلة النقل على نفي ذلك كذلك وتواترت،ومن تلك الأدلة وأظهرها:
أولا: قول الحق سبحانه{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الأنعام] أي :ليس هو كشيء، وأدخل المثل في الكلام توكيدًا له كما قال أوس بن حجر:
وَقَتْلَى كمِثْلِ جذُوعِ النَّخيلْ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك: كجذوع النخيل، وكما قال الآخر:
سَعْدُ بْنُ زيد إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ... ما إن كمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أحَدٍ
ويجوز أن يكون معناه: ليس مثل شيء، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام، كقول خطام المجاشعي ، وقيل هميان بن قحافة : وَصَالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ،وقول آخر:
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطَّرِيقِ... قَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ
فأدخل الكاف مع"عن"،والكاف إما أن تكون زائدة ، أي عن بيضة ، وإما أن تكون الكاف اسما بمعنى مثل في محل جر.
وفي معنى المثل قال الخليل في العين :" الشَّكْل: المثل "إ.هـ وقال في جمهرة اللغة :" الشَّكْل: المِثل والشّبه، بفتح الشين "إ.هـ
والدليل الثاني قوله تعالى{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}[الصافات]تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا،وتنزه عن أن يوصف بما لا يليق جل جلاله،وقد ثبت أن لوازم القول بالمكان على الله لا تليق بجلاله فوجب نفي المكان سبحانه،وذلك لأنه سيتبع وصفه بالمكان وصفه بالتجسيم والحد والتحيز وهذا ما وقع فيه المجسمة كما سيتبين ذلك لا حقا بإذن الله.
شبه المجسمة :
فإذا ثبت لدينا كل هذا فإننا نقول إن الذين قالوا بأن الله في مكان اختلفوا فيما بينهم أين الله :
فقال جماعة منهم: هو فوق العرش بذاته،وفي ذلك يقول ابن تيمية في مجموع الرسائل مانصه:" وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور لأن علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه "إ.هـ بل وأنكروا غاية الإنكار وشنعوا غاية التشنيع على من لم يقل بقولهم ففي مجموع رسائل ابن تيمية ما نصه:" قال يزيد بن هارون: من زعم أن الله على العرش استوى بخلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ..وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء.
وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا، وهذا كثير من كلامهم "إ.هـ
بل وبالغوا في التشنيع على المنزهين بوصفهم جهمية والدعاء عليهم حتى أصيب بعضهم بالقلق والاضطراب ففي جامع رسائل ابن تيمية ما نصه :" وقال رجل لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله من كثرة ما أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء "إ.هـ
وزعم هؤلاء أن هذا هو مذهب سلف الأمة الذي لم يخالفهم فيه مخالف وأنه هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة،ففي جامع الرسائل مانصه:" وقال شيخ الإسلام المسؤول أيده الله: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف إذ لم ينقل عنهم غير ذلك إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات الفرقانية والأحاديث النبوية "إ.هـ
وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى منزه عن هذه الصفة - أي أنهم وافقونا- ومنهم الإمام الغزالي،كما يتبين ذلك من خلال تأويله لقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى }والتي هي أقوى ما اعتمد عليه القائلون بعلو الله تعالى فوق عرشه بذاته،حيث قال في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد مانصه :" أما الاستواء فهو نسبه للعرش لا محالة، ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوماً، أو مراداً، أو مقدوراً عليه، أو محلاً مثل محل العرض، أو مكاناً مثل مستقر الجسم. ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلاً وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له، فإن كان في جملة هذه النسبة، مع أنه لا نسبة سواها، نسبة لا يخيلها العقل ولا ينبو عنها اللفظ، فليعلم أنها المراد إما كونه مكاناً أو محلاً، كما كان للجوهر والعرض، إذاً اللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق، وإما كونه معلوماً ومراداً فالعقل لا يخيله، ولكن اللفظ لا يصلح له، وإما كونه مقدوراً عليه وواقعاً في قبضة القدرة ومسخراً له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه لأن يمتدح به وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً، أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها، فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى الأمير على مملكته، حتى قال الشاعر:
قد استوى بشير على العراق ... من غير سيف ودم مهراق "إ.هـ
وقد نسب هذا القول كذلك إلى بعض سلف الأمة خلافا لما تقدم عن ابن تيمية من نسبة إجماعهم على ما ذهب إليه فقال – أي الغزالي-:" ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم: يفهم من قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى "ما فهم من قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } "إ.هـ