هو
الإمام الحافظ الزاهد المجاهد أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي-بالولاء-ولد
بالبصرة سنة45 هـ أو بعدها بقليل،أخذ العلم
عن
جماعة من صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وجماعة من التابعين،توفي سنة 150هـ
أو بعدها بقليل في عهد الملك العباسي أبي جعفر المنصور.
منهج الدعوة الإسلامية :
لقد
سلك أبو عبيدة في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مسالك عديدة، مما جعل لدعوته
الصيت القوي ومكن لحركته الانتشار الواسع في الآفاق المختلفة، إذ أن أسلوب هذا
الرجل وفكره الثاقب جعل من المعطيات البسيطة شيئاً في الوجود يحسب له ألف حساب في
الساحة السياسية والعلمية، مما حدا بأتباعه أن يظهروا في الأرض ويدوخوا رؤوس
الدولة الأموية هنا وهناك، إنها مشاعل من حقها أن تضيء الكون، وأن تخرج للوجود بعد
الكتمان الطويل الذي فرضته عليها عواصف الزمن وذلك بفضل أبي عبيدة وأساليبه الحركية
فأول هذه الأساليب:ـ
1ـ أسلوب الاستقطاب:ـ
لقد
عمل الإمام أبو عبيدة -رحمه الله تعالى- بأسلوب الاستقطاب الذي يعتمد على اختيار
رجال من مركز الدعوة في البصرة من ذوي الخبرة والدراية بأحوال الناس، وإرسالهم إلي
الأمصار المختلفة، سواء كان ذلك في الجزيرة العربية مثل عُمان واليمن والحجاز أو
إلي خارجها مثل شمال إفريقيا، وذلك من أجل انتقاء الفئة التي ترى فيها المواصفات
التامة للرجل الذي يستطيع بحق أن يقوم بالدور الإيجابي لصالح الدعوة، وخاصة أن أهل
الأمصار لهم الدراية الكبيرة بمواطنهم وبأحوال الناس وعاداتهم وتقاليدهم وطرق
معيشتهم ومقدار تطورهم الفكري والحضاري ودرجة ولائهم للسلطة الحاكمة، وبالتالي
يسهل عليهم مخاطبة الناس واختبار الظروف الملائمة والأماكن المناسبة لإقامة مراكز
الدعوة ونشر أفكارهم ومعتقداتهم في تلك البلاد، وإذا تفحص الباحث المصادر الإباضية
المتوافرة فإنه يجد أن معظم حملة العلم كانوا من بين السكان الأصليين للبلاد التي
يبشرون فيها.
فحملة
العلم إلى عُمان كانوا من نفس الموطن العماني، وحملة العلم إلي المغرب كانوا أيضا
من نفس بلاد المغرب، إذ تم استقطابهم عن طريق الداعية سلمة بن سعد الحضرمي الذي
طاف ببلاد المغرب فاختار شباباً من ذوي الكفاءة من ليبيا والجزائر وتونس وأرشدهم
بالتوجه إلى البصرة ليعودوا فيما بعد محققين كل ما كانت تطمح إليه الحركة
الإباضية، مبرهنين على حسن اختيارهم.2ـ أسلوب المناظرات الكلامية:
لعل
من الصفات التي يمتاز بها الإباضية عن غيرهم أنهم لا يميلون إلى كثرة الجدل، ولا
يرتاحون للمناقشة الفارغة التي لا جدوى منها، ولا يشغلون أوقاتهم بترديد الأقاويل
وإطالة الأحاديث، ولذلك فأنت عندما ترجع إلي أسواق الجدل ومحافل الكلام في التأريخ
الإسلامي الطويل فإنك تجد الإباضية أقل الفرق كلاماً وأكثرها عملاً وأخفها حديثاً
وأرجحها إيماناً وأبعدها عن الدعوى وأدناها إلى الاهتداء.
لا
يشغلون أنفسهم بالصخب والدوي الذي ليس له نتائج، ولا يلقون بأنفسهم في الكفاح
الكلامي الذي يهدف إلى مظاهر العظمة والنفوذ في الدنيا، ولكنهم مع كل ذلك كانوا
أحرص الناس على إقامة الحق وإثبات أدلته، وعندما يقتضي الموقف الرد على أباطيل
المدعين وترهات المبتدعين وشبهات المفترين فإن علماء الإباضية يكونون أسرع الناس
إلي تحطيم الباطل الذي يريد أن يستعلن أو الشبهة التي يبغي صاحبها أن يكسوها ثوب
الحجة، يتبعون سبيل الله الذي حدده الإسلام وأوضحه هدي محمد عليه الصلاة والسلام،
كفاح لا تصاحبه ضجة ونصر لا تسبقه دعوى ولا يعقبه تبجح أو افتخار أو مباهاة.
وأبو
عبيد قد سلك في منهجه الدعوي مسلك المناظرة والجدل الحي الهاديء الذي لا يصخب
ولكنه يقطع طريق التحدي على الأهواء والبدع.
وإذا
كان هذا الإمام قد سلك مسلك المناظرة فلا غرابة في ذلك فقد عايش وعاصر أكثر الفرق
الإسلامية حباً للجدل -وهم المعتزلة- فهذا إمامهم واصل بن عطاء الذي كان يتمنى
لقاء أبي عبيدة يقول: (لو قطعته قطعت الإباضية) فبينما هو في المسجد الحرام ومعه
أصحابه، إذ أقبل أبو عبيدة ومعه أصحابه فقيل لواصل: (هذا أبو عبيدة في الطواف)
فقام إليه واصل فلقيه، وقال: (أنت أبو عبيدة). قال: (نعم) قال واصل: (أنت الذي
بلغني أنك تقول: إن الله يعذب على القدر؟) فقال أبو عبيدة: (ما كذا قلت؛ لكن قلت:
إن الله يعذب على المقدور) فقال أبو عبيدة: (وأنت واصل بن عطاء) قال: (نعم) قال أبو
عبيدة: (أنت الذي بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعصى بالاستكراه) فنكس واصل رأسه
فلم يجب بشيء، وأقبل أصحاب واصل على واصل يلومونه؛ يقولون: (كنت تتمنى لقاء أبي
عبيدة؛ فسألته فخرج وسألك فلم تجب) فقال واصل: (ويحكم بنيت بناءاً منذ أربعين سنة
فهدمه وأنا قائم فلم أقعد ولم أبرح مكاني).
وأبو
عبيدة في انتهاجه هذا الأسلوب قد سار على نهج أستاذه وإمامه جابر بن زيد في توضيح
الحق لكل من يريد أن يعرفه، فقد روي أن جماعة من الخوارج أرادوا أن يجادلوا جابراً
فقال لهم: (أليس قد حرم الله دماء المسلمين بدين؟) فقالوا: (نعم) فقال: (وحرم
البراءة منهم بدين؟) فقالوا: (نعم) فقال: (أو ليس قد أحل دماء أهل الحرب بدين بعد
تحريمها بدين؟) فقالوا: (بلى) قال: (وحرم الله ولايتهم بدين بعد الأمر بها بدين؟)
فقالوا: (نعم) فقال: (هل أحل ما بعد هذا بدين؟) فسكتوا، وهكذا استطاع أن يسير بهم
خطوة خطوة حتى يضع أيديهم على الحق ويعرفهم أن الأحكام التي تنطبق على المسلمين
ليست كالأحكام التي تنطبق على المشركين، وأن الموحد إذا ارتكب ما يحل به دمه لا
يكون ذلك كافياً لاستحلال ماله وسبي نسائه وأطفاله.
2- أسلوب المجالس التعليمية وإعداد الدعاة:
إن
التنظيم الدقيق الذي قام به الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي في سبيل
نشر المبادىء الأساسية للدعوة الإباضية يحتم عليه وهو يعايش في مجتمع واحد من
يتربص به الدوائر؛ أن يجعل أمره سراً يحار الخصم فيه، فلذلك انتهج نفس الشيء
بحنكته ولباقته الفذة في جعل مجالس الالتقاء بينه وبين أصحابه غاية في التنظيم
السري، بالرغم من وجود هذه المجالس منذ الأيام الأولى لقيام الحركة الإباضية إلا
أن أبا عبيدة قد وضح معالمها وصنف وظائفها ورتب طبقاتها وعرّف أفراد كل مجلس من
تلك المجالس؛ التي يرى بعض الباحثين إنها كانت مقسمة على النحو التالي:
أـ مجالس الشيوخ:
هذه
المجالس يحضرها زعماء الحركة الإباضية فقط، حيث تستعرض المقررات السياسية التي
ينبغي أن تتجه إليها مسيرة الحركة بالدراسة الدقيقة والتمحيص المتكامل في سرية
تامة بعيداً عن العوام والمبتدئين، لإيجاد السبيل التنظيمي والتخطيط المناسب لكل
حركة سرية ثورية ولمتابعة جهود الدعاة من حملة العلم وغيرهم في الأمصار ومواجهة كل
ما قد يجد من مشكلات في سبيل الدعوة.
ومن
شروط هذه المجالس -كما أسلفنا- إنها خاصة بزعماء الحركة مثل الإمام وكبار المشايخ،
وأي شخص من غير هؤلاء لا يسمح له بالدخول مطلقاً، ويدل على هذا تلك القصة التي
أوردتها بعض المصادر، أن شعيب بن عمر -وهو من أفاضل شباب أهل الدعوة- قد حاول دخول
مجلس المشايخ، وكان منعقدا في الليل في بيت زوج أخته حاجب الطائي، ولما علم حاجب
بقدومه رفض السماح له بالدخول وطلب منه العودة إلى بيته الذي يبعد أكثر من ثلاثة
أميال.
هذه
الحادثة تعطينا انطباعاً ظاهراً على مدى المعاناة والمسؤولية التي ألقيت على عاتق
أولئك الرواد الأوائل؛ الذين طالما ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل إيصال الحق إلى
الناس وإزاحة كل عقبة تقف حائلاً في طريق مرور قافلة الخير، فلا قرابة ولا نسب
أولى وأقرب إلى النفوس لها الحق في تغيير ما اتفق عليه الجميع.
ب ـ مجالس العامة:
هذه
المجالس عبارة عن أماكن لإلقاء الدروس والإرشادات في العقيدة وأمور الدين يحضرها
عامة أهل الدعوة ويخصص منها جانب للنساء.
ومن
جهة أخرى كانت تعقد سراً في بيت أحد المشايخ، أو في سراديب أرضية خاصة، أو في أي
مكان بعيداً عن الشبهة كمثل بيوت النساء أو في بيوت الكرائين، وذلك كله إمعاناً في
الحيطة والحذر.
وبما
أن هذه المجالس أكثر المجالس رواداً من أفراد الحركة ممن يحبون أن يعرفوا أصول
المذهب وتعاليمه السامية، كان لا بد من إيجاد حراسة مشددة حتى لا يعلم باجتماعهم
أحد من المناوئين للحركة، أو حتى لا تداهمهم الشرطة على غفلة، فلذلك كانوا يعينون
أشخاصاً لمراقبة الأحياء والطرق المؤدية إلى أماكن تلك المجالس، وإذا بدا أي خطر
ينفض المجلس بسرعة وكأن شيئاً لم يكن.
يقول
أبو سفيان قنبر: (وما بلغنا أنه ظفر بهم في مجلس قط إلا أنهم كانوا ذات مرة أتاهم
الخبر بأن الخيل تريدهم، فخرجوا مسرعين وتركوا نعالهم على باب البيت الذي كانوا
فيه، فجاء الشرطة، ونظروا إلى النعال.
فقالوا
للعجوز: صاحبة البيت ما هذه النعال؟فقالت: مكاتب لنا يسأل الناس فيعطى النعال
وغيرها.
قالوا:
بالله ما ذلك كما ذكرته؛ فإن هذا موضع ريبة.
فقال
بعضهم: قد ذكرت العجوز ما ذكرت؛ لا تعرضوها للبلاء فلعلها أن تكون صادقة.
قال
أبو سفيان: فعافاها الله منهم).
وإذا
كانت هذه المجالس مجالس عوام ومبتدئين فلا بد من جعل من يشرف عليهم، فكان المشايخ
البارزون يشرفون على هذه المجالس العامة، فعرف كل مجلس باسم الشيخ الذي يشرف عليه،
مثل مجلس عبدالملك الطويل؛ ومجلس أبي سفيان قنبر؛ ومجلس أبي الحر علي بن الحصين؛
ومجلس أبي مودود حاجب الطائي؛ وغيرها.
ج ـ مجالس إعداد الدعاة:
حيث
كان الدعاة الذين تم اختيارهم على أيدي رجال مهرة لهذا الغرض من مختلف الأمصار،
يتلقون العلم وأصول الدعوة وتعاليمها وتخطيطاتها عن الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي
كريمة التميمي وعن شيوخ الإباضية البارزين الموثوقين.
في
هذه المجالس التي أعدت بإحكام لأداء الغرض المنوط بها، وهو إعداد جيل يستطيع أن
يضطلع بالمهمة الشاقة التي سوف يتحملها إذا ما غدا خارجاً من سراديب البصرة، التي
كانت تعتبر بحق أهم مركز إشعاع عرفه الفكر الإباضي.
تلك
السراديب التي خرجت أولئك الرجال الأبطال الأفذاذ الذين برهنوا للعالم أنهم أهل
للمسؤولية التي كانت ترجوها منهم الحركة الإباضية الأولى، فهم مشاعل خير وآمال أمة
وحملة العلم إلى بلادهم وأمصارهم التي أتوا منها، فقد أسلفنا أنهم أتوا من أماكن
مختلفة.
فمنهم
من أتى من عمان: كالربيع بن حبيب الفراهيدي وبشير بن المنذر النزواني ومحمد بن
المعلا الكندي وراشد بن عمر الحديدي وأبي حمزة المختار بن عوف وبلج بن عقبة الفراهيدي
والجلندى بن مسعود وغيرهم.
ومنهم
من أتى من اليمن: كسلمة بن سعد الحضرمي وعبدالله بن يحيى الكندي طالب الحق وأبي
الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري وأبي أيوب وائل بن أيوب الحضرمي.
ومنهم
من أتى من الحجاز: كمحمد بن سلمة المدني وأبي سفيان محبوب بن الرحيل القرشي المكي
وأبي الحر علي بن الحصين.
ومنهم
من أتى من خرا سان: كهلال بن عطية الخرساني وأبي عيسى الخرساني وأبي عبدالله هاشم
بن عبدالله الخرساني.
ومنهم
من أتى من مصر: كمحمد بن عباد المصري وعيسى بن علقمة المصري.
وقد
تعلم ناس من نفس العراق أيضاً: كأبي غسان مخلد بن العمرد الغساني العراقي وعبد
الملك الطويل وأبي سعيد عبدالله بن عبد العزيز.
ومنهم
من أتى من الشمال الإفريقي «بلاد المغرب» مثل: عبد الرحمن بن رستم الفارسي وعاصم
السدراتي وإسماعيل بن درار الغدامسي وأبي داؤد القبلي؛ الذين أطلق عليهم لقب «حملة
العلم إلي المغرب» بعد أن انضم إليهم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري
اليمني، فكوّن هؤلاء الخمسة هذه الحملة المباركة التي آتت ثمارها الطيبة في بلاد
المغرب.
سيف بن أحمد البوسعيدي
0 التعليقات:
إرسال تعليق