تعديل

السبت، 18 يناير 2014

هل الإباضية فرقة من الخوارج ؟


قبل أن يُجيب أيُّ باحثٍ عن هذا السؤال يَجِبُ أن يُحدِّدَ معنى كلمة الخوارج وما تدل عليه .
يطلق بضع المؤرخين كلمة الخوارج على أولئك الناس الذين اعتزلوا أمير المؤمنين عليًّا بن أبي طالب عندما قبل التحكيم ورضي به ، لأنَّهم في نظر هؤلاء نقضوا بيعةً في أعناقهم ، وخرجوا عن إمامة مشروعة .

ويطلقها فريقٌ من الْمُتكلمين في أصول العقائد والديانات وهم يقصدون بِهَا الخروجَ من الدين ، استنادًا إلى قول رسول الله r : « إن ناسًا من أمَّتِي يَمْرُقُونَ من الدين مُرُوقَ السهم من الرَّمِيَّة » . وقد ورد الْحَدِيثُ بروايات متعددة وألفاظ مُختلفة .
أما الفريق الثالث فيطلقها ويقصد بِها الجهاد في سبيل الله ، استنادًا إلى قولِهِ تعالى : ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ﴾ [النساء : 100] .
وإذا أباح بعض المؤرخين لأنفسهم أن يطلقوا هذه الكلمة- كلمة الخوارج – على جميع أولئك المتمسكين بولاية علي، المصرين على أنها حق شرعي لا يجوز فيه التردد، وأنه ليس من حق حتى عليِِِّ نفسه، أن يشك في إمامة أجمعت عليها الأمة، ولا أن يتساهل فيها، أو يقبل عليها المساومة، وأن معاوية وأتباعه فئة باغية، يجب عليهم الرجوع الى حضيرة الإمامة والأمة، إما طوعا وإما كرها بنص الكتاب، فإذا رضخ عليّ لطلب البغاة، ووضع الحق اليقيني موضع الشك، وتنازل عن الواجب الذي أناطته به الأمة، وألزمته به البيعة، فإن هذه البيعة تنحل من أعناقهم، وهم بعد بالخيار.
قلت: إذا أباح بعض المؤرخين لأنفسهم، أن يطلقوا كلمة الخوارج، على هذه الطائفة، فإنه يحق لنا أن نتريث ونتثبت حتى يستبين لنا طريق الصواب، ويتضح منهج الحق.
ولكي ننصف هؤلاء القوم، الذين أطلق عليهم بعض المؤرخين لقب الخوارج، وحاربهم إخوتهم المسلمون بالدعاية الكاذبة والصادقة، وقاتلوهم! كما لم يقاتلوا حتى أعداءهم في ذلك الحين، وطاردوهم! كما لم يطاردوا حتى الزندقة والإلحاد.
لكي لانظلم هؤلاء القوم، ولكي نوضح موقفهم كما يرونه في ذلك الحين، دون أن يتسرب إليه خطاء التاريخ المغرض، أو تحامله عليهم، ودون أن نهتم بالدعاية الكاذبة، التي تقلب حقائق التاريخ، قلبا لايرضاه التفكير السليم، والمنطق القويم، تلك الدعاية التي تعاون على بثها وإشاعتها، كل من الأموية المتعصبة المتسلطة، والشيعة الغالية المتطرفة، لكي نوضح موقف هؤلاء القوم، يجب أن نستعرض حركة الثورات1 منذ فجر الاسلام، ونضع صوررته الواضحة بين أيدينا، لتصح المقارنة، ويكون الإستنتاج أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الدقة.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفاح مستمر ضد الوثنية التي تسيطر على العالم، وجهاد متواصل ضد القوى المتكتلة التي تعارض انطلاقة الدعوة لتحرير الإنسان من عبادة غير الله. فلما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأتم الله نعمته على أمة محمد، ورضي لهم الاسلام دينا، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما أدى الرسالة، وبلغ الأمانة....
وبايع الناس أبابكر خليفة له، ولكن بعد هذه المبايعة مباشرة، وقعت أول ثورة في الإسلام، من أناس كانوا يشهدون أن لاأله إلا الله وأن محمد رسول الله، وكان من هؤلاء الثائرين من ارتد على عقبيه، وأنكر ما اعترف به، ومنهم من عزت عليه أمواله، فامتنع من أداء الزكاة...
فكان في الموقف الحازم الذي وقفه منهم خليفة رسول الله، رغم معارضة بعض الصحابة له، كان في هذا الموقف الحازم الصلب، إقرار لحكم الله، وتثبيت لقدم الإسلام، ونصر لدين الله، وقضاء مبرم على أصول هذه الثورة أو الفتنة، والقائمين بها، فاستتب الأمن، واستقرت الأمور واستمر المسلمون في أداء الرسالة التي دعا إليها محمد، طيلة خلافة أبي بكر، وطيلة خلافة عمر، ذلك العهد المجيد الذي يعتبر بحق امتدادا لعصر النبوة. وتولى عثمان الخلافة، فسارت الأمور ست سنوات كاملة سيرتها في زمن الخليفتين السابقين، ثم بدأت الاحوال تتغير، وظهرت مشاكل جديدة، وتعثر سيرة الخلافة فقد أصبح نقد أعمال الخليفة والنيل من سلوكه يتفشى على كثير من الألسنة، ويجري في كثير من المجتمعات، ولم تتم ست سنوات أخرى حتى كانت الثورة الجامحة التي ذهبت فيما ذهبت بحياة عثمان بين سمع وبصر كثير من الصحابة، وكانت هذه الثورة الثانية بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبايع المسلمون علياً بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وكان أول من بايع: طلحة ابن عبدالله والزبير بن العوام، ولكن ما كادت أن تتم البيعة حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة، وقد استظهروا بأم المؤمنين عائشة. ووقف الخليفة مع الثائرين موقفا حازما صلبا، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين، ذهب فيمن ذهب فيها طلحة والزبير، وتابت أم المؤمنين، ورجع بقية الثائرين إلى حظيرة الإمامة والأمة، وكانت هذه هي الثورة الثالثة في الإسلام.
لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة، ويعود الى البلاد الهدوء والإستقرار، ويعرف معاوية أن الثورة فشلت، وأنه معزول عن ولاية الشام لا محالة، حتى أعلن الثورة بالشام، وهو حينئذ عامل من عمال الخليفة، وأظهر أنه يطالب بدم عثمان، وقد استعد أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة، كما أطفاء الثورة التي سبقتها، وجهز جيشه القوي، وسار به نحو الشام، حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف (صفين) وبدأت المعركة، ثم استمر القتال حتى ظهرت طلائع النصر، وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة، ولم يبقى للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلا لحظات، عبر عنها الأشتر النخعي (بفواق الناقة) التجأ الثائرون الى الحيلة والخدعة ولجأوا إلى المكر والمكيدة، فرفعوا المصاحف وهم يصيحون يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.
طالب الثائرون هدنة، ودعوا الخليفة الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين.
وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة، وعرفوا القصد من هذه الهدنة، ولكنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم، ويوالي حربه ضد الثائرين، حتى يتحقق النصر- وقد تحققت بشائره- ويُـلقي البغاة بأسلحتهم، ويعودوا الى صف الأمة الذي انشقوا عنه، وبغواعليه، بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك، استجاب لدعاة الهزيمة، وأخد بنصيحة طلاب الدعة، وأكثرهم موعود من معاوية أو من عورو بن العاص1. ورضي بالتحكيم وقبل الهدنة، وأمر بايقاف القتال في الحال.
وهكذا انتهت هذه الثورةالرابعة إلى هذا الموقف المائع، الذي جعل حق عليّ في الخلافة يتساوى مع حق معاوية، وجعل نصيب البغاة الثائرين يساوي نصيب جيش الإمة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمت بالشورى، وانعقدت بالبيعة.
وتداعى الذين فطنوا الى خدعة الهدنة من أصحاب علي وحذروه من قبولها، وأخبروه أن قبولها يعني الشك في خلافته والتنازل عنها. وكانوا مصرين أن الخلافة الشرعية حق لا يتطرق اليه الشك، ولايجوز فيها الرجوع، ولاتقبل فيها المساومة.
وإذ خطر لعليّ أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه، والماكرين من عدوه، وأن يشك في نفسه، والحق الذي بيده، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون، ويساوي بينه وبين أحد عماله، في قضية أخذ فيها عهداً من الأمة، وأخذت منه فيها موثقا وعهداً. ورضخ الى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.
حين فعل عليّ ذلك، تداعى أولئك الذين لم يرتضوا التحكيم، وحذروا علياً من قبوله. وهم يرون أن معاوية باغ لا حق له، وأن بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة ورضائه بالتحكيم، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة، وليس لأحد عليهم ميثاق. تداعوا الى أن يعتزلوا جيش علي، وركنوا الى موقع يسمى حروراء فانعزلوا فيه، ينتظرون تجدد الحوادث، واتجاه الامة في قضية الخلافة، ويمكن ان يسمى هذا الانعزال عن جيش علي: بالثورة الخامسة، ولو ان هذه الثورة الى هذا الحين كانت ثورة سلبية، وموقف أصحابها كان موقف المحايد الذي ينتظر مجرى الأمور، وقد جرت الأمور باسرع مما يتوقع لها، فما بلغ الموعد الذي حدده الطرفان لإنتهاء الهدنة حتى اجتمع الناس، وأعلن أبوموسى الأشعري مندوب عليّ: عزل عليّ من الخلافة، وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.
كان هؤلاء المحايدون يتتبعون منطق الحوادث والواقع، فهم ينظرون الى معاوية نظرتهم إلى باغ يحاول ان يفرض نفسه بالمكر والحيلة، ولذلك فهم لايقيمون أي وزن لدعوى عزله، فهم لم يتولى أمر الخلافة إلى ذلك الحين، لابالإكراه ولا بالشورى، فلا معنى لغزله من منصب ليس هو فيه، كما لايقيمون أي وزن لتولية عمرو بن العاص له، لان عمرو لم يفوضه المسلمون في تولية أمير المؤمنين. أما نظرتهم الى علي فقد كانوا يتوقعون أن يتفق الحكمان على إقراره في الحكم، وحينئذ ترجع الى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحدوا صفوفهم تحت طاعته ما قام فيهم بكتاب الله. ولكن المندوب الذي اختاره علي ليمثله في هذه القضية الظالمة، أعلن أنه عزل عليا عن أمر المسلمين، وأن الأمر أصبح للشورى والإختيار، وتؤيد موقف هؤلاء المحايدين، وانظم اليهم عدد أخر ممن كانوا يقفون الى جانب علي حتى ذلك الحين، وبحثوا الامر فيما بينهم على أساس أن المسلمين أصبحوا دون خليفة، فهذا معاوية باغ ظالم لايمكن أن يتولى أمر المسلمينن، وهذا علي يعزله المنذوب الذي اختاره للتحكيم، وأذن فليختاروا ...... واختاروا عبدالله بن وهب الراسبي، فبايعوه اميرا للمسلمين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم.
وبهذه الخطوة أصبحت الأمة الاسلامية منقسمة الى ثلاث دول: دولة يرأسها معاوية – وإن لم يبايعه عليها أحد الى ذلك الحين- ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين – وعاد فاستمسك بالبيعة الأولى دون أن يعترف بعزل ابي موسى الأشعري له منذوبه في قضية التحكيم- ودولة يرأسها عبدالله بن وهب الراسبي- بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي عند قبوله التحكيم، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة- ومع كل فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة، وفيهم بعض المشهود لهم بالجنة1. على أن هناك فريقا رابعا اعتزلوا هذا النقاش الذي وقع بين المسلمين، وبعدوا عن قضية الخلافة، فلم يطلبوها لانفسهم، ولم يؤيدوا واحدا من طالبيها، ومن هذا الفريق السادة: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد.
بعد أن جمع الامام علي جيشه، ومن بقي تحت طاعته من الجند، فكر في اعادة الكرة على معاوية واخماد ثورته، ومحاولة اخضاعه من جديد.
ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبدالله بن وهب الراسبي، هذا الخليفة الجديد الذي وصل الى منصب الخلافة عن طريق البيعة، وهو الطريق الشرعي للخلافة.
واقتنع علي بصواب هذا الرأي، فعدل عن محاربة معاوية الى محاربة عبدالله بن وهب، وكان أتباع عبدالله بن وهب يعتقدون أن امامهم هو الامام الحق و أن كلا من علي- بعد التحكيم والعزل- ومعاوية ثائران يجب عليهما الرجوع الى حضيرة الامامة والأمة.
هذه خلاصة الثورات التي اشتعلت في ذلك العصر وذهب ضحيتها عشرات الألاف من أبطال الاسلام، وقد حاولت أن ألخصها بايجاز قدر المستطاع، مع عناية بإيضاح القضة من الزاوية التي يراها بها أؤلئك الذين يطلق عليهم في بعض كتب التاريخ والأدب كلمة الخوارج. أولئك القوم الذين يرون أنهم أصحاب الحق، وأن البيعة لم تنعقد بطريق شرعي بعد التحكيم الا لعبدالله بن وهب الراسبي ، ذلك الخليفة الذي بايعه جمهور من الامة، فيهم كثير من كبار الصحابة، من بينهم بعض المشهود لهم بالجنة.
فإذا رجعنا الى أول هذا البحث، وأردنا أن نستخلص منه طائفة معينة ، من الطوائف التي قامت بالثورة، لنطلق عليها اسم الخوارج، فينطبق هذا الاسم عليها انطباقا كاملا، من الناحيتين السياسية والدينية، ويكونون خوا ج عن الخلافة وخوارج عن الدين، وينطبق عليهم الحديث الذي أوردناه سابقاً.
فأي هذه الطوائف الثائرة يمكننا أن نطلق عليها هذا الاسم ملاحظين فيه معنى الخروج عن الاسلام ونحن مطمئنون الى صحة أحكامنا، ومنطقية استدلالنا وعدم انسياقنا الى تيار معين من تيارات التاريخ.
أما أكثر أوائل المؤرخين، وقد كانوا إما تبعا للشيعة أو صنائع للأمويين، يعملون جاهدين على إرضاء متبوعيهم، فقد وجدوا الأمر سهلا لم يكلفهم عناء، فأطلقوا كلمة الخوارج على العدو المشترك للأمويين والشيعة، أطلقوها على تلك الطائفة من المسلمين التي اعتزلت عليا عند التحكيم وبايعت عبدالله بن وهب إماماً، وثارت على الظلم، وفساد الحكم في الدولة الأموية، ومن بعدها ممن سار في ذلك الطريق، وتنكب عن سيرة الخلافاء الراشدين. ولكى يصبغ أولئك المؤرخون هذه التسمية باللون المقبول ، ربطوا المعنى السياسي لكلمة الخروج بالمعنى الدينى ، و قد عملت السلطة و الدعاية في كلتا الطائفتين : الشيعة و الاموية ، على تثبيت هذا الاطلاق و نشر هذه الاقاويل ، حتى وضعت مئات الاحاديث المكذوبة في الطعن على الخوارج، و التشنيع عليهم، و نسبة المروق و الكفر اليهم جميعاً، او الى افراد من رؤسائهم و زعمائهم، وقد كان المهلب بن ابى صفرة القائد الذى ضحى بدينه لدنيا بنى امية ، من اكثر الواضعين لهذه الاحاديث المكذوبة في الطعن على الخوارج، حتى اشتهر بذلك و عرفه به الناس، فكانوا يقولون اذا رأوه خارجاً: (راح يكذب)1. كان الأمويون والشيعة يحاولون بكل ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب، لقب الخوارج- بعد أن فسر بالخروج من الدين- بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في إصرار وشدة، بالمباديء العادلة في الخلافة؛ وكان الشيعة يحاولون بما أوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي، كما كان غيرهم من الطامعين فيها، يشترط لها الهاشمية أو القرشية أو العروبة، حسب المصلحة السياسية لأصحاب الآراء في ذلك الحين. وكل هذه الإتجاهات تجتمع على محاربة الاتجاه الذي اتجه إليه أتباع عبدالله بن وهب الراسبي. ذلك الإتجاه العادل الذي يرى أن المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) {لافضل لعربي على أعجمي إل ابالتقوى}.
قلت في صدر هذا الحديث: إن عددا من الثورات وقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إنتهاء خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب، فأيُّ هذه الثورات يحق أن يطلق على القائمين بها لقب الخوارج، مع ملاحظة الخروج عن الخلافة الشرعية والمروق من الدين؟
  لتسهيل الإجابة على هذا السؤال أستطيع أن أقسم هذه الثورات الى ثلاثة أقسام:-الأول: ثورة ليس لها تعليل ولا أسباب غير عدم تمكن الإسلام في قلوب القائمين بها. وعدم إيمانهم الإيمان الصحيح بتكامل الرسالة المحمدية، ويتجلى هذا في الثورة الأولى، التي ارتد فيها فريق، وامتنع فريق أخر عن أداء الزكاة.
الثاني: ليس لها أسباب ظاهرة معقولة: أما أسبابها الحقيقية الخفية، فهي النزاع على مناصب الدولة، من خلافة أوعمالة، ويتمثل ذلك في الثورة الثالثة التي قام بها طلحة والزبير، وفي الثورة الرابعة التي قام بها معاوية بن أبي سفيان.
القسم الثالث: ثورة استندت الى أسباب ظاهرة يتراءى للناظر أنها معقولة، ويتمثل ذلك في الثورة الثانية التي قتل فيها عثمان، وفي الثورة الخامسة التي اعتزل فيها جماعة من جيش علي بعد التحكيم، وعزل أبي موسى الأشعري له.
فلو كان المقصود من كلمة الخوارج، هو الخروج السياسي عن خليفة تمت له البيعة الشرعية، لكان إطلاق هذه الكلمة على طلحة والزبير، أو على معاوية وأتباعه، أو على الثائرين على عثمان أظهر وأوضح، أما إذا لوحظ المعنى السياسي مع المعنى الديني فإنه لا يمكن إطلاق هذه الكلمة عليهم، كما أنه من العسير إطلاقها على المعتزلين لعلي.
والسبب في هذا العسر أن هؤلاء الثائرين سواء كانوا من القسم الثاني أو من القسم الثالث إنما ثاروا غير منكرين لأصل من أصول الإسلام، ولا مكذبين بمعلوم من الدين بالضرورة، ومع كل طائفة منهم فريق من كبار الصحابة، فيهم بعض المشهود لهم بالجنة.
وبناء على هذا فإن أحاديث المروق –إذا صحت- لايكون المقصود منها إلا أصحاب الثورة الأولى، أولئك الذين خرجوا على خلافة أبي بكر منكرين للشريعة أو لأصل من أصولها، فإن هؤلاء يستطيع الباحث أن يطلق عليهم كلمة الخوارج، وهو يقصد بهذه الكلمة معنييها السياسي والديني وهو مطمئن، لخروجهم عن خلافة مجمع عليها، وإنكارهم للإسلام جملة بعدما أمنوا به، أو تكذيبهم بركن ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، إنكارا إستحقوا به أن يحاربهم خليفة رسول الله الأول حربا لاهوادة فيها، مصداقا لقوله عليه السلام: [لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود] – إن صح الحديث - وقد قتلهم خليفته رضي الله عنه قتل ثمود تحقيقا لخبره عليه السلام.
ويستأنس لهذا الرأي من توقعه صلى الله عليه وسلم أن يدركهم، فإن هذا يدل على قرب زمنهم منه، وأنه كان يأمل أن ينتقم لله منهم، ولكن إرادة الله شاءت أن يتأخروا عنه قليلا، وأن تكون فتنتهم إمتحانا لصلابة أبي بكر، وأن تكون عقوبتهم على يد الصديق رضي الله عنه.
وكما يستأنس بهذا الحديث لهذا المعنى، كذلك يستأنس بحديث المروق في الرواية التي تقول (سيخرج أو سيمرق) فإن إستعمال السين يدل على قرب الخروج، ولم يكن أقرب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الخروج الذي قضى عليه الصديق وحارب أهله حرب ثمود.
على أنني أقف وقفة طويلة عند هذه الأحاديث التي تصف فرقا من المسلمين بالمروق من الدين. ولو أنني لا أملك الآن الأسباب التي تحملني على الشك في صحتها.
ويظهر من سياق الحوادث أن هذه الأحاديث التي تتحدث عن الخوارج، لم تكن معروفة عند حدوث الثورات الأولى، وإلا فكيف أمكن أن لا تدور على الألسنة، وأن لايوصف بها الخارجون عن الخلافة في زمن أبي بكر وعثمان وعلي، ولا الخارجون عن الدين في زمن الصديق؟ لماذا تبقى محفوظة لايستفيذ منها أنصار الخلافة أو خصومها في أربع ثورات جامحة ذهب ضحيتها عدد غير قليل من المسلمين الأبطال. إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الأحداث لم تكن معروفة عند وقوع هذه الثورات، وإنها إنما وضعت بعد ذلك قصدا للتشنيع على أهل النهروان، ولحمل علي على قتالهم والقضاء عليهم، خوفا من أن يتحرج علي من دمائهم، ويتردد في قتالهم، ويفكر تفكيرا منطقيا في أنه قد يكون لهؤلاء حق، ولرأيهم سند.
وقد كان علي شديد المحاسبة لنفسه، كثير التفكير في أعماله السابقة، يزِنُ مأقدم عليه من أحداث، ويدل لهذا ماقاله أبو العباس الشماخي في كتابه القيم (السير) : (فقال الأشعت ناجز القوم، وإن كلموا الناس أفسدوهم علينا)1 فالشيعة الذين يحيطون بعلي، وهم يكافحون لكي يبنوا دولة، يخشون أن يتصل أهل النهروان بالناس، وأن يقنعوهم بما لديهم من حجة وبرهان، إن قبول التحكيم خطاء في السياسة، وإن خلافة علي بعد التحكيم والعزل باطلة، وإن البيعة ساقطة عن الأعناق، وإن الخليفة الحق هو عبدالله بن وهب الراسبي، الذي بايعه جمهور غير قليل من المسلمين، كان الشيعة يخافون أن يتصل أهل النهروان بالناس، ولذلك فهم يريدون أن يقضوا على هذه الآراء قبل أن تنتشر في الناس، ويفهمها الجميع، ويقتنعوا بصحتها.
ولا يمكن القضاء على هذه الآراء إلا بالقضاء على أصحابها، فلو تردد علي في هذا الأمر، وتحرز من إراقة الدماء، فإن كل شيء سوف يضيع، ولذلك فيجب أن يحمل بشتى الوسائل والطرق على اتخاد هذه الخطوة الحازمة الحاسمة.
وقد استطاعوا أن يقنعوه، فاقتنع برأي الأشعت، واتخذ هذه الخطوة، ونفذ فكرة المناجزة، فقضى على أهل النهروان، ولكنه لم يستطع أن يقضي على الفكرة التي دعوا إليها، هذه الفكرة التي تسربت بما فيها من صدق وصراحة و واقعية إلى كثير من العقول، حتى أصبحت مبدأ يناضل عنه معتنقوه بصبر وشجاعة وثبات.
وخلاصة البحث أن كلمة الخوارج، أطلقها بعض المؤرخين على أتباع عبدالله بن وهب الراسبي إطلاقا تاريخيا وأدبيا، بحيث لاتنصرف إلى غيرهم، وليس في هذا كبير بحث، فإن إطلاق إسم على مجموعة من الناس ليس بذي أهمية إذا كان هذا الإطلاق مجرد تسمية. أما إذا روعي فيه مدلول ديني فإنه يحسن بنا أن نتريث قبل أن نطلق هذا الحكم الرهيب، الذي يسلطه التاريخ المغرض على رؤوس بعض الطوائف الإسلامية في قساوة وغلظة، في الحين الذي نعترف فيه أن هذه الطوائف تؤمن برسالة (محمد) وبتكاملها، وبما جاء فيها، وتستند في آرائها ونظرياتها الى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.. وتعتمد في محاججتها على ماجاء في التنزيل، وورد في خبر المعصوم، وأجمعت عليه الأمة، التي لاتجتمع على ضلال، ولو أنهم انحرفوا في الفهم، وأخطأوا في التأويل. وقد يعتقد بعضمن يطلع على هذا الفصل أنني أريد الدفاع عن الخوارج، وتبرير أعمالهم، وتصحيح أخطائهم.

والواقع أنني لم أقصد إلى شيء من ذلك، وكل ما في الأمر أنه ساقني إلى هذا الحديث، المنطقية التي وجدتها في أبحاثهم ونظرياتهم في قضية الخلافة، وحاولت جهد المستطاع أن أصور الحوادث والدواعي إليها في ذلك العصر دون أن أنساق مع تيار من التيارات، وأجعل أحكامي أكثر دقة وتجردا من المؤثرات السياسية والعاطفية والمصلحية، التي أثرت على كتّـاب التاريخ والباحثين في العقائد في تلك العصور السوابق. والله الموفق للصواب.

الشيخ علي يحيى معمر 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More