بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على رسوله الكريم ،،، وبعد:-
فإن التربية رسالة شريفة وعظيمة فبها يتم
تنشئة الأفراد وعن طريقها تصنع المجتمعات، وهي منهج الأنبياء حيث قاموا بدورهم في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة أقوامهم بأقوم أسلوب تربوي، واستخدموا
أساليب شتى في إبلاغ أوامر الله تعالى جاء ذكرها في كتاب الله العزيز.
وأشمل الطرائق التربوية دعوة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- التي احتوت مختلف مراحل حياة الإنسان وتنوع مواهبه وتباين
مداركه وأفكاره، وقد استقى المسلمون من نبعها طرقهم التربوية، وعلى الرغم من
اختلاف تياراتهم العقدية ومشاربهم الفكرية إلا أن التربية النبوية كانت قادرة على
أن تفي باحتياجات الجميع، وكانت كل طائفة من طوائف المسلمين تحاول أن تصوغ مبادئها
ومعتقداتها وسلوك اتباعها في قالب ديني مستمد من كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى
الله عليه وسلم- وقد يحالفها الصواب حيناً وقد ينآى عنها أحياناً أخرى، وكان نصيب
أهل الحق والاستقامة هو الوقوف حيثما وقف كتاب الله تعالى وسنة الرسول الكريم -صلى
الله عليه وسلم- والسير حيثما سارا، وقد كانت عنايتهم مبكرة بتربية سلوك أفرادهم وإنارة
الطريق لهم بمعالم الهداية الربانية ومن ذلك جاءت دعوتهم مرتبطة بالعهد الراشدي
ومن ثم بالعهد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
وقد شهدت حركة سير أهل الحق والاستقامة
عناية مستمرة بمجال التربية ونشأت مدارس علمية رائعة نذكر منها في البصرة: مدرسة
الإمام جابر بن زيد والإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي والربيع بن حبيب،
وفي عمان مدرسة موسى بن أبي جابر ومدرسة محمد بن بركة البهلوي ومدرسة خميس بن سعيد
الشقصي ومدرسة سعيد بن خلفان الخليلي ومدرسة نور الدين السالمي([1])،
ونذكر في المغرب العربي قيام نظام العزابة العتيد بدوره التربوي خلال مئات السنوات
المتعاقبة وله قوانين ونظم تربوية سبقت النظم التربوية الحديثة وهذا النظام وجد
بعض العناية من الباحثين الأكاديميين، ولكن للأسف الشديد -ما عدا هذه العناية- لم
ينفض الغبار عن هذه الثروة العلمية ولم تظهر إلى القارئ والباحث والمتخصص إلى حد
الآن لأسباب نعرض صفحاً عنها في هذه العجالة السريعة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن
يقدر ذوي البصائر النيرة لدراستها والاستفادة من مكنوناتها.
وتأتي هذه الوقفة السريعة كمحاولة مني
لاستجلاء بعض الخطوط العلمية لدى علمائنا وأتمنى أن تكون ومضة يسير عليها المهتمون
من شبابنا الناهض الذي يربط حاضره الزاهر بماضيه المجيد، هذه الوقفة هي محاولة
لاستنطاق فكر أحد العلماء العاملين من خلال كتاب من كتبه بلغة عصرية عسى أن نكون
آذاناً واعية فنحث الخطى للوصول إلى ما وصل إليه أولئك الجهابذة المستنيرين.
هذا المفكر هو العالم العلامة قطب زمانه
الإمام أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني من خلال كتابه "الدليل
والبرهان".
فلماذا أبو يعقوب ولماذا الدليل
والبرهان؟؟.
في الحقيقة لا توجد هناك ميزة نميز بها
بين علمائنا بعضهم البعض من حيث التقديم والتأخير في الدراسة، فهم في الذروة
العليا والقمة السامقة بفهمهم الثاقب وعلمهم الزاخر وسلوكهم القويم وإخلاصهم
الحميد وأساليبهم الناجحة في التربية، ولكن أتاح لي الزمن بتوفيق من الله تعالى أن
اقرأ الدليل والبرهان قراءة متأنية أكثر من مرة، ووجدت أيضاً أن هذا العالم
الرباني قد خدم الفكر الذي يلتزمه خدمة جليلة ستتضح لاحقاً إن شاء الله عند
معرفتنا لشيء يسير من سيرة هذا العالم النحرير ولتعريف مبسط بكتابه الدليل
والبرهان.
وقفة لابد منها
أريد في هذا المقام أن أكرر ما قلته
سابقاً من أن فكرنا الإسلامي العظيم لما يجد اليد التي تنفض عنه الغبار، وهو
ينتظر؛ والمسلمون ينتظرون؛ بل العالم ينتظر هذه الذخائر التي تنادي بأعلى صوتها أن
أخرجوني لأنير السبيل وأهدي المارة التي تنشد الهداية والرشاد، ولكون هذه الدراسات
لم تقدم بعد فستكون محاولتي مبكرة جداً يكتنفها القصور من كل جانب ولكن أسأل الله
سبحانه وتعالى أن تكون خطوة على الطريق ولبنة في البناء.
الدراسة في "الدليل والبرهان"
لا يمكن أن نصوغ منها نظرية تربوية معاصرة بفلسفة التربية وأهدافها ورسالتها
وأساليبها، ولكن -بدون ريب- يمكننا أن نستوضح بعض الخطوط العريضة التي تقوم عليها
رسالة التربية ولأجل ذلك يمكننا أن نحدد بعض هذه المعالم التي سنتحدث عنها أثناء
هذه الوقفة:-
أولاً: نظرة أبي يعقوب
الوارجلاني إلى العلم؛ رسالة وتعليماً وتعلماً.
ثانياً: الأساليب والوسائل
التي استخدمها أبو يعقوب الوارجلاني في ترسيخ العقيدة الإسلامية في نفوس المؤمنين والانتصار للحق من ادعاءات
المبطلين.
ثالثاً: المادة العلمية
التي ساقها الشيخ في معرض التدليل على فكرته.
أبو يعقوب الوارجلاني
هو الإمام العلامة بحر العلوم الخضم
والسراج المنير أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن مياد السدراتي الوارجلاني من قرية
سدراتة بنطقة وارجلان بالجزائر من علماء القرن السادس الهجري حيث توفي رضي الله
عنه عام 570هـ، كان واسع العلم نافذ البصيرة وقاد الذهن كثير التنقل والأسفار
للاطلاع على المزيد من المعرفة، وارتحل إلى الأندلس وجاب مجاهيل إفريقيا حتى وصل
إلى قريب من خط الاستواء ورحل أيضاً إلى الحج والتقى بعلماء الأمة كان لا يعرف له
الكسل طريقاً ولا النوم سريراً بل كان مثابراً على طلب العلم وتعليمه، راهناً نفسه
لرضوان الله تعالى محتسباً عنده الأجر العظيم بنشر العلوم المفيدة حتى برع في
مختلف فنون العلم، يقول العلامة أبو العباس الدرجيني عن جده واجتهاده في العلم: (أقام
سبعة أعوام ملازماً داره لا ينصرف، فكان متى زاره أحد من الزوار وجده أما ينسخ
وأما يدرس وأما يقابل، وأما يبرئ الأقلام، وأما يطبخ الحبر، وأما يسفر كتاباً، لا
يعدل عن هذا الفن إلى ما سواه إلا إن قام إلى الفريضة، وكان إذا اعتمد تأليفاً أو
نسخ ديواناً لا يهوله ولا يستعظم منه صعوبة ولا كثرة فإن له على ذلك قدرة)([2]).
فهل من همة في شبابنا لطلب العلم كهمة أبي
يعقوب الوارجلاني؟ ولا يمكن أن ينبغ طالب العلم إلا إذا فرغ كل وقته وجهده لطلبه،
فالعلم لاينال بالتمني بل بالكد والسهر والدرس والتحصيل.
بهذه الطريقة نبغ الشيخ رحمه الله في فنون
العلم فما من فن إلا وقد ألف فيه وحقق في مراميه، وتكفيك شهادة أبي العباس فيه:
(كان له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، له يد في علم القرآن، وفي علم اللسان،
وفي الحديث والأخبار، وفي رواية السير والآثار، وعلم النظر والكلام، والعلوم الشرعية
عباداتها والأحكام، وعلم فرائض المواريث، ومعرفة رجال الأحاديث، ولم يخل من اطلاع
في علوم الأقدمين، بل حصل مع ملازمة السنة قطعة من علم الحكماء المنجمين)([3]).
وإليك بعض الكتب التي ألفها رحمه الله
تعالى لترى مدى الأثر الذي تركه الشيخ في الفكر الإسلامي والعالمي:-
1
- العدل
والإنصاف في أصول الفقه؛ في ثلاثة أجزاء طبعته وزارة التراث القومي
والثقافة، وكان هذا الكتاب مقرراً في
حلقات نظام العزابة التربوي الناجح([4])،
كما أنه من مستندات الإباضية في أصول
الفقه حيث اعتنى بشرحه وتحقيقه جلة من العلماء، وسنبين
ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.
2
- الدليل
والبرهان؛ في ثلاثة أجزاء، طبع قديماً بالمطبعة البارونية بمصر، ثم
طبع بوزارة التراث القومي والثقافة عام
1403هـ-1983م ويعد هذا الكتاب من مراجع أصول
الدين في المذهب الإباضي، وسنتحدث عنه بشيء من التفصيل لاحقاً إن شاء الله.
3
- مرج
البحرين في المنطق والفلسفة؛ طبع بالمطبعة البارونية وبوزارة
التراث القومي والثقافة بالسلطنة
مرفقاً بالجزء الثاني من الدليل والبرهان.
4
- مروج
الذهب في الفلسفة؛ وقيل هو عنوان لنفس الكتاب السابق، وقد ترجم إلى
أغلب لغات أوروبا نظراً لأهميته([5]).
5
- تفسير
القرآن الكريم؛ في سبعين جزءً، ولكن للأسف الشديد مازال مفقوداً
إلى هذا الوقت، وقيل إنه يوجد جزء واحد منه
في إحدى المكتبات الألمانية.
6
- الجامع
الصحيح؛ قام الشيخ رضي الله عنه بترتيب مسند الإمام الربيع بن حبيب
فسماه الجامع الصحيح، ولا يخفى على أحد
أن الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب هو
المستند الأول للإباضية في مجال الحديث.
7
- فتوح
المغرب؛ قال عنه الأستاذ حسن عبد الوهاب: (إن له كتاباً كبيراً في
التأريخ يسمى فتوح المغرب، رأيت نسخة منه
في تركة المستشرق الكبير الفرنسي مونتيسكيو) قال:
(ويوجد ذلك الكتاب فتوح المغرب الآن في بعض خزائن ألمانيا)([6]).
9
- القصيدة
الحجازية؛ وهي تقع في ثلاثمائة وستين بيتاً وصف فيها الأماكن
المقدسة، ومطلعها:-
عذيري عذيري من
ذوات المعاجر
|
ذوات العيون النجل سود الغدائر
|
جاء فيها وصفه لرحلته إلى الحج ذهاباً
وإياباً وللمناسك وتأديته لها وختمها بنصائح تربوية
ومواعظ إيمانية للتزود ليوم الرحيل إلى الله، وحث فيها على العمل الصالح والأخلاق الفاضلة.
10- ترجمة لرجال
المسند.
المدرسة
التي ينتمي إليها الوارجلاني.
ونقصد بالمدرسة هنا المنهج التربوي الذي سار
عليه أهل الحق والاستقامة، فالحركة العلمية التربوية لديهم كانت لها أهداف واحدة
تكاد لا تتغير من زمان إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، ويرجع ذلك إلى كونها مستمدة من
مصادر ثابتة وهي القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام،
وإلى شمولها في صياغة وبناء الشخصية الإسلامية، وإلى استخدامها شتى الأساليب
المتاحة في كل عصر، فهي لا تنغلق على نفسها ولا ترفض التجديد في الوسيلة والطريقة،
ولكن بوعي وذكاء دون أن ينحرف مسار أهدافها يقول الدكتور محمود قمبر:( أما التربية
الإباضية فقد حاولت قدر استطاعتها أن تجمع هذه الأبعاد في تربية متكاملة تستهدف
تنمية جماع الشخصية عقلاً ونفساً ويداً وجسماً، اهتمت بالعلوم الدينية واللغوية
وهدفها معرفي عقلي، كما اهتمت بالتهذيب النفسي والتحسين الخلقي وهدفها سلوكي
تعبدي، ولم تقصر في إكساب مهارات العمل اليدوي والإنتاج الحرفي وهدفها نفعي
اقتصادي، كما دربت على إكساب وتنمية قدرات وأساليب بدنية وهدفها دفاعي)([9]).
ولكي تتضح لنا الصورة أكثر في بيان وحدة
المسلك التربوي لدى أهل الحق والاستقامة -زماناً ومكاناً- نسوق مقطتفاً من الرسالة
التي بعث بها الشيخ العالم عمر بن سعيد الجربي إلى الإمام بلعرب بن سلطان: ( فإذا
كان الأمر هكذا فينبغي لإمام المسلمين أيده الله بالتوفيق وأنار له معالم التحقيق
أن يجعل في كل حصن من حصون مملكته المجلل عدله المزيد فضله معلماً يعلم الناس أمر
دينهم ويزهدهم في الدنيا الفانية الخسيسة ويرغبهم في الآخرة الباقية النفسية،
ويتيسر هذا إن شاء الله تعالى بالنظر في أحول من له نظر ومعرفة ولو أدنى معرفة
وذوق في العلم إن ظهرت منه أسباب الخير بالنصيحة لنفسه أولاً ولعباد الله والشفقة
عليهم والرغبة في الدين، فحين إذن يتوجه الأمر المطاع من إمام المسلمين بأن يتصدى
للتعليم بالغداة والعشي، ولا يحقر ما معه من العلم وإن قل إن كانت نيته خالصة بأن
ينمو ويزيد ويفيد ويستفيد ببركة العلم وفضله حيث كان خالصاً لوجه الله عز وجل لعل
غافلاً يتنبه أو نائماً يتيقض أو ناسياً يتذكر أو ناسياً يتبصر، وتكون سنة حسنة في
الإسلام ولمن سنها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وهو إمام المسلمين
وأعوانه في الدين لا يتغير ولا ينقص من أجور المعلمين شيء، الله الله ثم الله الله
وحاشا لمثلك أن يتغافل ويتهاون في مثل هذا وأنت بتوفيق الله وفضله خليفته في أرضه،
والعلم أصول دين الله وفروعه، ولوازم العدل المأمور به المفروض أمثاله وشروعه،
ولكن لكل شيء سبب ولكل أجل كتاب، إذا أراد الله إظهار أمر يرضيه في الدين أجراه
على يد أحد من خلقه ممن يختصه لمزيد فضله {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}...)([10]).
ويمكننا أن نستخرج من هذه الرسالة فوائد
جليلة كانت مدرسة الاستقامة تعمل بها أو تسعى جهدها لأجل توفيرها:-
1- تعميم التعليم بين
المواطنين ومجانيته من الدولة أو القائمين بالأمر.
2- تربية شاملة وحكيمة تقصد
إيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين.
3- أن يكون التعليم
إلزامياً بأمر القائم على أمور المسلمين.
4- استغلال المهارات
والقدرات المتوفرة ووضعها في الموضع المناسب ( ولا يحقر ما معه من العلم وإن قل).
5- العمل على التدرج
والترقي بالسلم التعليمي سواء في جانب المتعلمين أو في الوسائل والمعلومات أو في جانب المتعهدين بالتعليم
(المدرسين)
6- تعليم الناس أمور دينهم
وأحكام شريعتهم.
7- الزهد في الدنيا
والإقبال على الآخرة، ولا يكون هذا إلا بغرس تقوى الله تعالى في السر والعلن.
8- أن يكون النظام
التعليمي قائماً على النصيحة والرغبة في الدين والشفقة على الناس.
9- الإخلاص لله تعالى مما
يؤدي إلى إحكام الجهاز التربوي وجني الثمرة الطيبة منه.
10- أن يؤدي المنهج التربوي
والتعليمي إلى غرس خصلة العدل والعمل بها في سائر جوانب الحياة.
11- لابد لجهاز التربية
والتعليم من الهمة والنشاط والمتابعة (وحاشا لمثلك أن يتغافل ويتهاون في مثل هذا).
في حلقات هذه المدرسة التربوية الإسلامية
تعلم أبو يعقوب الوارجلاني وعلّم فيها ودرّس وأفاد، ومن ذلك ليس غريباً أن نرى في
كتابه الدليل والبرهان- الذي اخترناه- شذرات تربوية يجب علينا أن نستفيد منها،
فالمدرسة الإباضية حلقات تتبع حلقات من الإمام جابر بن زيد وإلى ما شاء الله تعالى
من الزمان، ونكون مقصرين في حق أنفسنا إن لم نعِ هذه الرحلة العلمية على مدى
الزمان، بل ينبغي لنا أن نصوغ تلك المفاهيم التربوية والعلمية في قوالب عصرية
نطبقها أولاً ثم ننقلها إلى الآخرين ليستمدوا منها علماً عملياً في واقع حياتهم.
نموذج
من تأثيره التربوي
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن الشيخ
أبا يعقوب الوارجلاني كان مؤدباً ناجحاً ومربياً قديراً، أحد الرموز العلمية التي
تركت تأثيراً واضحاً في المدرسة الإسلامية الإباضية فقد قررت بعض مؤلفاته في حلقات
نظام العزابة ككتاب العدل والإنصاف، وقد استفاد منه العلماء في المشرق والمغرب في
تدريس أصول الفقه قبل تأليف الإمام نور الدين السالمي لشرح طلعة الشمس، بل مازال
اعتمادهم عليه في التصنيف إلى هذا الوقت.
ولبيان أهمية العدل والإنصاف التربوية
والفقيه نذكر ما ناله هذا المؤلف من عناية بالغة فقد تداوله علماء المذهب
بالاختصار والشرح والنظم، نذكر من ذلك:-
1 - كتاب البحث الصادق
والاستكشاف عن حقائق معاني كتاب العدل والإنصاف لأبي القاسم البرادي.
2 - كتاب مختصر العدل
والإنصاف لأبي العباس الشماخي.
3 - كتاب شرح مختصر العدل
والإنصاف لأبي العباس الشماخي كذلك.
4 - حاشية أبي ستة على شرح
مختصر العدل والإنصاف لأبي عبد الله المحشي.
5 - كتاب رفع التراخي عن
مختصر الشماخي للشيخ عمر بن رمضان التلاتي.
6 - شرح شرح العدل والإنصاف
للشيخ محمد بن يوسف أطفيش.
7 - موارد الألطاف نظم مختصر
العدل والإنصاف للشيخ أبي مالك عامر بن خميس المالكي.
8 - تحقيق العدل والإنصاف
للشيخ الدكتور عمرو خليفة النامي.
9 - دراسة مقارنة بين العدل
والإنصاف والمستصفى لأبي حامد الغزالي للشيخ مصطفى ابن صالح باجو.
ومن الأثر العلمي المهم الجلي الذي وضعه
أبو يعقوب الوارجلاني على حلقات العلم في المدرسة الإباضية اعتمادها الجامع الصحيح
ترتيب مسند الإمام الربيع بن حبيب كمقرر في تدريس مادة الحديث الشريف بل اعتمد
عليه أهل الحق والاستقامة في كل فروع المعرفة الدينية.
ونقدم إليكم موقفاً عملياً قيماً -مكتفين
به خشية الإطالة- حيث يروي لنا العلامة أبو العباس الدرجيني قائلاً: (وكان إذا جاء
إلى موضع الوضوء في مسجد وارجلان انصرف كل من حول المتوضى، فيضع من يده سفراً
ومفتاحاً ويضع عمامته وكساءه ويقعد في ثوب واحد فيدخل المطهرة، فيرجعون ويأخذ
أحدهم شيئاً منها ويأخذ الآخر شيئاً آخر، حتى يرجع الشيخ فلا يجد شيئاً فيقول ردوا
عليّ علائقي، فيقول أحدهم أرد بعوض، فيسأل عن مسألة في النحو ثم يجيب فيرد ما أخذ،
ثم يسأل آخر عن فريضة، ويسأل الآخر عن مسألة فقهية، ويسأل الآخر عن تأويل آية،
ويسأل الآخر عن تأويل رؤيا، وعن غير ذلك، فيجيب كلهم، فحينئذ يردون عليه ما أخذوا،
فكان هذا دأبه رحمه الله تعالى حتى لقي ربه)([11]).
هذا موقف فيه دلائل تربوية كثيرة: منها؛
الأنس ولين الجانب الذي يتمتع به الشيخ رحمه الله تعالى دون أن يسقط عنه هيبة
العلماء، ومنها؛ لابد أن يكون كل طالب مستعداً لتقديم سؤال ينتفع من إجابة الشيخ
عليه، ومنها؛ رسوخ الفهم والمعلومة لارتباط السؤال والجواب بالمواقف العملية،
وأيضاً وجود الحركة والنشاط الذي يبدد سآمة الاستماع من طرف واحد، وأيضاً تنوع
المعلومة والفائدة، وبالجملة فهو موقف تربوي ناجح علينا أن نستفيد منه ومن جميع
المواقف التربوية التي كان يمارسها سلفنا الصالح في واقع سلوكهم التربوي.
رحلات أبي يعقوب
الوارجلاني
مما يدرك بالضرورة التربوية أهمية الرحلة
في تنمية العملية التربوية، حيث تتوسع المدارك ويقف الإنسان على حقائق علمية
جديدة، ولا ريب أن العلماء قد استفادوا من الرحلات في تكوين اتجاهات تربوية
وعلمية، بل تمكنوا من وضع قوانين علمية من جراء الاكتشاف، وأبو يعقوب الوارجلاني
كان رحالة من الطراز الأول حيث استفاد من الرحلات في توسيع علومه واستنارة
فكره،وقد كان لرحلته الاستكشافية المبكرة قدم السبق في قضايا علمية تنبه لها الغرب
مؤخراً، ولا نريد هنا الإسهاب فهذا غير محله، بل نذكر شيئاً من هذه الفوائد
العلمية من خلال زيارته إلى الأندلس ثم إلى السودان ثم إلى المشرق وحجه لبيت الله
الحرام، يقول الأستاذ مصطفى باجو عن رحلاته: (لم تكن البيئة بوارجلان تسمح للطالب
بالتوسع في معارفه خارج إطار علوم الشريعة ولغة القرآن، ولكن نهم أبي يعقوب العلمي
وذكاءه الوقاد دفعا به إلى طلب المزيد من العلوم، وكان طلعة إلى كل ما يوسع
المدارك وينير الفكر) (شد الرحال إلى خارج وارجلان في أسفار متعددة أكسبته معرفة
واسعة بعلوم عصره وبالمجتمعات التي زارها والحياة العملية في العواصم الإسلامية
المختلفة)([12]).
1 - رحلته إلى الأندلس:-
لقد كانت رحلته إلى الأندلس رحلة علمية
موفقة استطاع أبويعقوب رضي الله عنه أن يزاحم نوابغ الأندلس في ذلك الوقت، وقد
اكتسب هناك منهجاً عقلياً مكنه أن يرد على خصوم الدين في كتابه الدليل والبرهان
وأن يضع أكثر من كتاب في الفلسفة ترجمت إلى لغات أوروبا، بل أن الشيخ رحمه الله
تعالى كانت له حلقة علمية في الأندلس تركت أثرها البالغ على مرتاديها سواء من
العرب المسلمين أو الأوروبيين، فقد ذكرت المستشرقة الألمانية زينجريد هونكة أن أبا
يعقوب درس ودرّس بالأندلس، وكانت له حلقة علم خاصة في جامع قرطبة كان يحضرها طلبة
ألمان([13]).
وكان مجداً في التحصيل أثناء دراسته في
الأندلس حتى أنه قد شد انتباه أستاذه بقرطبة فشبهه بأبي حامد العامري، وكان
الأندلسيون يشبهونه بالجاحظ لتبريزه في مختلف العلوم([14]).
كما أنه درس في طليطلة علم الكيمياء حتى
نبغ فيه مما كان له أثر بالغ بعد ذلك عند رحلته إلى السودان ومجاهيل إفريقيا، كما
أنه نبغ في علم الفلك والنجوم مما أهله أن يجري دراسة جغرافية دقيقة عن الأقاليم
الأرضية السبعة.
2 - رحلته إلى السودان:-
بعد رجوعه رضي الله عنه محملاً بالعلم
الغزير رحل إلى السودان ومجاهل أفريقيا واستفاد من حصيلته العلمية في الدراسة
الجغرافية والاجتماعية، نذكر من ذلك في الجانب الجغرافي اكتشافه لخط الإستواء قبل
مئات السنوات من اكتشاف الأوروبيين له -وهذه حقيقة غائبة عن كثير من شبابنا
المسلم- يقول أبو يعقوب في كتابه الدليل والبرهان: (ومن وراء الأقاليم خط الإستواء
أيضاً معمور، وقد وصلت أنا بنفسي إلى قريب من خط الإستواء وليس بيني وبينه إلا
مسيرة شهر، وكاد أن يستوي فيه الليل والنهار فيه أبداً، وإنما وصلنا إلى قريب منه،
وأطول يوم السنة إنما يفضل أقصر يوم منه بساعة واحدة فالنهار الطويل ثلاث عشرة
ساعة، والنهار القصير إحدى عشرة ساعة وليالها كذلك)([15]).
ونذكر في الجانب الاجتماعي ملاحظته عن أهل
هذه المنطقة القريبة من خط الإستواء يقول أبو يعقوب رحمه الله تعالى: (وهم يخافون
من البيض من الناس، ويحسبونهم ملائكة نزلت من السماء، يهزم الأبيض الواحد من الناس
عشرة آلاف منهم، وليس عندهم إلا عبادة الأصنام)([16]).
3 - رحلته إلى المشرق:-
لرحلة أبي يعقوب الوارجلاني إلى المشرق
غرض ديني وهو حج بيت الله الحرام وزيارة الأماكن المقدسة والسلام على النبي الكريم
-صلى الله عليه وسلم- لكن أبايعقوب الوارجلاني قد حقق هدفاً آخر مع هذا المسعى الديني
الواجب وهو الهدف العلمي حيث يقول الأستاذ مصطفى باجو ملخصاً للهدف العلمي لزيارة
المشرق: (كانت الرحلة إلى المشرق العربي في العرف المغربي عنصراً مهماً في تكوين
الشخصية العلمية وفي اكتساب الاحترام، وهو ما جعل طلاب العلم يحرصون أشد الحرص على
تحقيقها ويرون فيها السبيل الأمثل إلى المجد العلمي، وقل من علماء المغرب من لم
يشد الرحال إلى المشرق لتحصيل العلم)([17]).
وقد استفاد أبو يعقوب من رحلته هذه بأن
وقف على بعض المعالم الأثرية كوقوفه على الموضع الذي ألقت فيه أم موسى ابنها في
النيل، وأيضاً دراسته للظواهر الاجتماعية في طريقه إلى الحج ككرم أهل جربة وفزان
وحفاوة الاستقبال في مصر، والأذى الذي نالهم من ربان السفينة التي نقلتهم عبر
البحر الأحمر وجلافة الأعراب في الجزيرة العربية آنذاك،وتحدث أيضاً عن التأييد
الرباني لهم في حادثة فقد الماء.
وأريد هنا أن أختم موضوع رحلات أبي يعقوب
بعبارة لها عمقها التربوي والفكري في الاستفادة من العلوم المختلفة وخاصة في
الاطلاع على أحوال الأمم والحضارات حيث تحتاج من طلبة العلم وحاملي الفكر إلى تأمل
دقيق وفهم عميق يجعلنا نستثير هممنا إلى معالي الأمور، يقول العلامة أبو يعقوب
الوارجلاني: (وكذلك الرجال لهم غلطات في اعتقاداتهم وتوهمهم من لم يمارس الأمور،
ولم يفارق وطنه وظن وتوهم أن بلده إذا كان فيه ريح أو غيم أو رعد أو برق توهمه في
سائر الدنيا، وكذلك إن كانت بلاده مخصبة أو جدبة أو جبالاً أو رمالاً أو سبخة أو
جنة أو أنهاراً أو عيوناً؛ في أمثالها، فإذا مارسوا الأمور وسافروا ورأوا البلاد
والعباد انقشع عنهم جل علومهم ورجعوا إلى الحقائق، وكذلك من شذا من العلوم شيئاً
فغلب عليه فن منها من الإلهيات والرياضيات والطبيعيات والصناعيات، فإنه يؤتى عليه
في غيرها مثل ما يؤتى على من كان في الصيف اعتقد أنه في الدنيا صيف، وأن من طال
نهاره طال نهار الدنيا كلها، ومن قصر نهاره أو ليله اعتقد هكذا في الدنيا، فقد
رأينا مشاهدة حتى يعتدل الليل والنهار أبداً، ورأينا لا تفاوت ما بين النهار
الطويل والليل القصير، والنهار القصير والليل الطويل مشاهدة، فإذا ما شذا من كل
العلوم انقشع عنه الجهل وتدرب)([19]).
الدليل
والبرهان
ذكرت سابقاً بأنني قد اخترت الدليل
والبرهان بسبب الفرصة التي أتيحت لي لقراءة هذا السِفر المهم، وقد شد انتباهي إلى
سعة الشيخ وتنوع معارفه وقدرته على توظيف المعلومات المختلفة للتدليل على العقائد
الحقة ودحض العقائد الفاسدة، ولا بد لنا في هذا المقام من ذكر نبذة يسيرة عن هذا
الكتاب القيم الذي سوف نستخرج بعض مكنوناته التربوية والعلمية، وليس حقه هذه
الدقائق المعدودة وإنما ينبغي عقد دراسة موسعة لهذا السفر العظيم حتى تبرز
مكنوناته القيمة وتشع أحجاره الكريمة، فمؤلفه رحمه الله تعالى كان موسوعياً، يتم
في هذه الدراسة بحث جوانبه اللغوية والفقهية، ومعلوماته التأريخية والجغرافية
وأساليبه المنطقية والفلسفية، بالإضافة إلى مادته في علم الكلام والعقائد([20]).
وعلى كل فالكتاب يقع في ثلاثة أجزاء وألفه
الشيخ رحمه الله تعالى بعد كتاب العدل والإنصاف وهو أشبه بدائرة معارف إسلامية
مصغرة لعصر الوارجلاني([21])،واسمه
الكامل كتاب "الدليل والبرهان لأهل العقول لباغي السبيل بنور الدليل
لتحقيق مذهب الحق بالبرهان والصدق"([22]).
وقد امتاز
الدليل والبرهان بثلاثة أساليب:-
أولاً: قوة السبك في
التأليف ورصانة في التعبير ومحجة في الاستشهاد بالنصوص الشرعية
واللغوية.
ثانياً: يناقش أتباع كل
ملة بما يسلمون به، فهو يحاور المخالف من الأمة لعقيدة أهل الحق والاستقامة بالنص الشرعي والدليل السمعي
المسلّم به من الطرفين، ويسوق الحجج العقليه
للرد على الكافر والملحد، ومع هذا فأسلوبه يشمل طريقتين: الدفاع عن العقائد الحقة والهجوم على عقائد الضلال كل ذلك بدون
أن ياخذ السأم والملل القارئ والباحث.
ثالثاً: استخدم الشيخ رضي
الله عنه كثيراً أسلوب التهكم والسخرية من أصحاب العقائد الزائغة عند تهافت شبههم، ولذلك يحتاج هذا الكاتب إلى قراءة واعية
متأنية حتى لا يلتبس على القارئ تنوع
أساليب الشيخ في التأليف([23]).
1 التعليقات:
"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (159)ألأنعام
إرسال تعليق