المذهبُ الإباضي ليس مذهبا
سِرّيـًّا ، وليست أصولُه التي ينبني عليها خافيةً أو مَجْهولةً ، وليس أتباعُه مِمَّنْ
يستترون أو يَخْتفون ، فهم لا يقيمون لغير الله وزنًا في هذا الوجود ، ولا ينتظرون
عن أعمالِهِمْ جزاءً من غير الله ، ولا يتبعون في تصرفاتِهِمْ غير الحق .
إنه مذهبٌ ملأ الدنيا حقًّا
و عدلاً واستقامةً ، وضَرَبَ الْمَثَلَ الأعلى في النَّزَاهة والإنصاف في أدوارٍ
من التاريخ ، وسيملأ الدنيا بذلك عندما يأذن الله . ولستُ أقصِدُ بذلك مثلَ خرافة
الإمامة عند الشيعة، ولا قصة المهدي المنتظر، وإنما أقصد أن أقول: إن المذهب
الإباضي يستمد قوته من الإسلام، الذي اختاره الخالق ليكون دين البشرية جمعاء، كما
جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينحرف به عن صراط الله السويّ غلوّ ولا تفريط،
ولم تنتشر فيه الخرافة التي يبثها مشائخ طرق يتصيدون بها الدنيا عن طريق الدين،
ولم يتجمد بتحكم فقهاء على العقول والمدارك فيمنعون الإجتهاد، ويقصرونه على عصر أو
ناس لا يحق لغيرهم أن يصلوا إليه. وتُعطل العلوم والأفهام، فلا تُعطى حق الحرية في
البحث والتنقيب وإعطاء الأحكام. بدعوى أن الاجتهاد أغلقت أبوابه، واحتفظ الفقهاء
الجامدون بالمفاتيح في مخباء سريّ لا يهتدي إليه الباحثون.
قلت: إن المذهب الإباضي، يستمد قوته من الإسلام
نفسه، لأنه يحتفظ بصفاء النبع الذي يصدر منه، وعندما يتوب المسلمون إلى رشدهم،
ويعودون إلى دين ربهم، نظيفا من البدعة، نظيفا من الخرافة، نظيفا من الغلوّ، نظيفا
من الجمود، و نظيفا من الأباطيل التي ألصقها جهل الإنسان بدين الله القويم. عند
ذلك يجد المسلمون أنفسهم على الإسلام الحق، الذي ملأ الدنيا رحمة وعدلا، واستقامة
ونزاهة وحقا. وعلى ذلك الإسلام الحق لا تزال هذه الطائفة التي سماها التاريخ فرقة
الإباضية، وأصر أن يجعل لهم إماما كما لغيرهم من الفرق أئمة. ولو أن إمامهم الحق
الذي لا يهتدون بغير هديه، ولا يقلدون سواه، إنما هو محمد بن عبدالله، صلى الله
عليه وسلم، ليس لغيره حق الإمامة إلا بالأسوة الحسنة، والتتبع للسنة الحميدة
القويمة، والإيمان المطلق بأن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والعمل،
هو الهدى الذي أمر الله أمة محمد أن يكونوا عليه. وإذا جارى الإباضية المؤرخين،
وانتسبوا إلى عبدالله بن إباض، واتخذوا لهم إسْما كما لسائر الفرق أسماء، فلا يعني
ذلك أنهم يقلدون الرجال، ويقدسون أقوالهم، ويتبعونهم إتباعا أعمى، ويرفعون أولئك
الرجال إلى مراتب الكمال، التي لا يصلها إلا أنبياء الله المصطفون، وإنما يحرصون
أن لا يأخذوا دينهم إلا على من توفرت لهم فيه الثقة والأمانة في دين الله: الأمانة
في القول، والأمانة في العمل.
والإباضية لا يقدسون الرجال، ولا يجعلونهم علامة
على الحق، ولا يوجبون تقليد غير المعصوم، ولا يتبعونهم ما لم يثبت الدليل الشرعي
صواب مسلكهم، أو يرد النص بأنهم على هدى محمد عليه السلام، كما شهد الحديث الشريف
لعمار رضي الله عنه، ولبعض الصحابة رضوان الله عليهم.
قال فخر المجتهدين قطب الأئمة، رحمه الله تعالى في
رده على العقبي: (وان أردت أنهم مهملون لا إمام لهم، فقد سهوت، فإن إمامهم النبي
صلى الله عليه وسلم)1.
ولن يعظم في نظر الإباضية إلا المؤمن الذي يستمسك
بغرز النبي، عليه السلام ويسلك المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ومهما بلغ
الرجل من العلم والعمل فإن في مقاله مأخوذا ومتروكا غير من قال فيه الكتاب الكريم :
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم:3، 4) ...
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةًٌ ﴾ (الأحزاب:21).
بهذه النظرة الواقعية ينظر الإباضية الى أئمتهم،
فهم بشر غير معصومين، تحتمل أقوالهم وأعمالهم الخطاء والغفلة والنسيان، ولذلك فما
يصح تقليدهم لأفعالهم أو لأقوالهم، وإنما تؤخذ عنهم تلك الأقوال، ويقتدى بهاتيك
الأفعال، حين يقيمون على صحتها وصوابها الدليل، الذي لا يقبل التأويل، فاتباعهم في
قول ليس تقليدا لهم، ولا اتباعا لرأيهم، وإنما هو اتباع لمن يتبعون، وتقليد لمن به
يقتدون، وبهديه يهتدون، وإلى حكمه يرجعون.
عَلي يَحْيَى مُعَمَّر
0 التعليقات:
إرسال تعليق